حلب التي عادت إلى السجن الأسدي، وتسابق المعارضون على لوم أهلها المحتفلين، بدت متأرجحة بين إدانة ومكابرة، الأولى ترميها بالخيانة لقبولها نظام الاستعباد من جديد، والثانية تمدها بالأعذار محيلة سلوك المحتفلين إلى نفي تمثيلهم المدينة.
في حلب التسعينات الهادئة، كانت أشرطة الموسيقى جزءاً من يوميات المدينة ومشهدها.كان اﻷمر من ضمن صور أخرى كثيرة علقت في الذاكرة. هذا النص يحاول استعادتها..
سمّاني معظم الناس بدلة أسنان، أو طقم أسنان، ولا يخفى عليكم أنَّ هاتين التسميتين مترادفتان، وتؤدّيان المعنى نفسه.. والفكان يشكِّلان بدلةً أو طقماً، وعلى رغم ذلك فإنني أفضِّل اسم (الدكّة) التي يشترك فيها المصريون والحلبيون، لأنَّني صُنِعتُ ونشأت وترعرعت في مدينة حلب، وتنقّلت فيها من فم إلى آخر، وذقت فيها الحلو والحامض واللفَّان، فضلاً عن الحنظل والمرّ والعلقم.
أنا أكتب منذ سبع سنوات عن دمشق كما عرفتها، أو ربما بشكل أدق، كما سمعت عنها من أمي ومن جدتي. أكتب عن حلب التي لم أعش فيها رغم أن والدي منها، لذا فأنا أقرب إلى حكواتية منه إلى شاهدة، إذ أن كثيراً ممن أشتاق إليه منذ توقفت عن زيارة سوريا لم يعد فعلياً موجوداً
أحياناً تظن أن الماضي نائم في قلبك. لكن أدنى تفصيل قادر على أن يوقظه، كرائحة صابون الغار هذه. هذه الرائحة لا تحملك إلى تلك الأسواق البعيدة فحسب، بل أيضاً إلى قطار تختلط محطاته مما بين أوترخت وزفولا إلى ما بين حلب وعنتاب.
حال مرتا، المرأة التي غادر أولادها حلب وبقيت لوحدها في المدينة، هو امتداد لغربة هائلة أصابت أبناء المدن المنكوبة. هنا سيرة امرأة من حلب هي سيرة موازية للمدينة وللوحشة التي أتى بها خراب المدينة.
بعد ساعات من إعلان الجيش التُركيَّ وقوات الجيش السوريّ الحر السيطرة على مدينة عفرين، بعد خروج مقاتليَّ وحدات حمايَّة الشعب الكردية منها، بدا أن الحرب دخلت مرحلة جديدة. فقد تناقل روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ صوراً تظهر مقاتلين داخل مدينة عفرين، وهم يسقطون ويحطمون تمثال كاوا الحداد،البطل الكردي الأسطوري الذي أنهى ظلماً تعرض له الأكراد على يد ملك فارسي يدعى أزدهاك، في مشهدٍ مُشابه لما فعله تنظيم داعش في سوريَّا والعراق، حين حطم ودمر التماثيل الأثريَّة وشواهد القبور في الأماكن التي دخلها.
يوم ذهبت جدتي إلى الحج وأنا أقطع سنتي العاشرة في هذه الحياة. لم يكن العالم موحشاً إلى هذه الدرجة. لكن كنا نسمع الكثير عن أولئك الذين يذهبون إلى مكة ولا يعودون إلا في اﻷكفان. وكان يكفي أن يكون اﻷمر محتملاً لأنقطع عن الحياة رغم صغري طيلة مدة سفرها، وأظل أؤدي كل الصلوات واﻷدعية التي علمتني إياها على نية أن تعود، وأبكي في نهاية كل منها، مخافة أن يصيبها أحد احتمالات الروايات التي كانت تحكيها لي عن أولئك الذين تذكّرهم ربهم أو تذكروه في تلك البقاع.