مازلت أقيم بلا أوراق شرعيّة سوى بطاقة أمر المغادرة التي لا أجرؤ حتّى على حملها في جيبي. منتظراً (الفرصة المستحيلة) لمقابلة مدير الأمن العام اللّبناني اللّواء عباس ابراهيم، لأسأله عن سبب أمر التّرحيل الّذي صدر بحقي.
أتحدث عن الشعور الّذي فقدته في سوريا، ووجدته في لبنان. ولا أعظم من ثورة 17 تشرين، الّتي أعادت إليّ ثقتي بنفسي كإنسان، حين كنت أتابعها، وأبحث فيها عن كلّ شيء، ظل حسرة في قلوبنا كسوريّين، لأنه لم يتحقّق في ثورتنا.
كل مدني شاهدته في مقطع مجزرة التضامن، أعاد علي الألم ذاته، والشعور المرعب ذاته لحظة السقوط في الهواء. وأكد لي المنهجية التي يتم تدريسها لعناصر القتل والإجرام التابعين لنظام الأسد.
كل ما في القصة، أن ضياء الذي لم يتجاوز السادسة، أثناء انتظاره مع أبيه عند أحد الحواجز، أشار إلى سلاح أحد العساكر، وصاح بأعلى صوته أنه يشبه “البارودة” التي اشتراها له أبوه، فظنوا أن أباه يملك سلاحاً. لذلك قاموا بتصفيته، برغم أنهم فتشوا منزله ولم يجدوا شيئاً.
لم يكن أحد يعلم ليلتها، أن تلك البيوت المتفرقة، المحيطة بالثكنة، تعتبر بالنسبة إلى عناصر جيش النظام ومخابراته، أماكن تهدّد محيطهم، قد يستخدمها الجيش الحر كمراكز للهجوم على الثكنة.
“شايفة يا حجّة شو صار فيكن من ورا الحرّيّة اللي بدكن ياها!” فأجابته، من دون أن تلتفت إليه: “والله يا خالة مابدنا لا حرّيّة ولاغيرها كلّ اللي بدنا ياه إسقاط هالنظام”. كانت إجابتها أقسى من رصاصة في رأس الضّابط، وفي صدور عناصره.
عندما واجه الشاب الدبابة وجهاً لوجه، تلعثم ولم يتذكر الآية القرآنية، فحاول قول أي شيء بمعناها، فما كان منه سوى أن صرخ بأعلى صوته “الله اللي بيرمي”. وكانت تلك آخر عبارة قالها في حياته.
كنا نصارع الوقت الذي يمرّ ببطء، ونصارع رعبنا من موت يرمي أبواب المنزل ونوافذه بالشظايا والحصى، نصارعُ بأساليب لا تخطر على بال أحد، كأن نقوم بِعَدِّ القذائف، أو نركّز مع صوت الصفير، كيف يبدأ بعيداً ثم ينتهي بانفجارٍ تهتزّ على إثره قلوبنا ومنازلنا.
كان منظر العلم وهو يرفرف بحجمه الشاسع في الأعلى، بنجماته الثلاث، يثير الرهبة في الأنفس، صوت خفقانه في الهواء يختلط بأصوات قلوب الناس المتفرّجين، ولا أثر لمن رفعه، ولا أحد يدري ما سيحصل بعد قليل.